يستعيد اللبنانيون هذه الايام، ذكرى تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي، ذكرى انهيار الامبراطورية الاسرائيلية التي عاشت اثنين وعشرين عاما حفلت بمقاومة نجحت في ان تلحق الهزيمة التي ما تعود جيش الاحتلال ان يُمنى بها، بعد ان تحولت فرق النخبة في الجيش الاسرائيلي الى رمز للهزيمة التي هزت الكيان الاسرائيلي، منذ احد عشر عاما.
في الثاني والعشرين من ايار، قبل احد عشر عاما قاد «قائد» معتقل الخيام الذي كانت تديره الميليشيات المتعاملة مع الاحتلال والتي كانت تُسمى «جيش لبنان الجنوبي»، الى قائد للفلول المنهارة، يقود عملية الفرار الكبير، على مرأى ومسمع من اهالي بلدة الخيام الذين اقتحموا المعتقل بالعصي والسكاكين لتحرير الاسرى القابعين في زنازين المعتقل.
في ذاك اليوم، خرج المعتقلون من زنازينهم الضيقة الى فضاء الحرية الرحب، وهم يلوحون بشارات نصر صنعتها ارادة المقاومين الذين زحفوا الى القرى والبلدات المحتلة.. ليدونوا الصفحة الاكثر اشراقا في تاريخ الوطن.. يومها انهارت المواقع والمراكز والثكن العسكرية الاسرائيلية، التي كانت اشبه بالحصون التي يتمركز فيها «جيش لا يقهر».. انهارت الحصون مع اول نسمة ريح في عاصفة التحرير، التي هبت على مئة وستين بلدة وقرية ومزرعة بعد اثنين وعشرين عاما.
في شهر ايار قبل احد عشر عاما نجحت المقاومة في تحرير الارض والناس، وفي تحرير الاسرى من المعتقلات ومعهم الشهداء الذين امضوا سنوات طويلة، وهم مأسورون تحت التراب.. وفي عيد المقاومة والتحرير، يستذكر اللبنانيون المسيرة الطويلة التي خطها المقاومون من خلال تضحيات الالاف من الشهداء والجرحى والمعوقين والمعتقلين والاسرى والمعاناة والتنكيل والخسائر والتهجير والتشريد وحرق الارض.
امس، قصدت الاسيرة المحررة فاطمة شرف الدين، معتقل الخيام الذي قضت بضع سنوات داخل زنازينه، ووقفت امام زنزانتها المدمرة لتستعيد يوميات الاعتقال، وهي قالت «جئت لاتأمل حجم الانجازات الذي حققته المقاومة على مدى كل هذه السنوات الطويلة من المقاومة والكفاح .. وانا اقف في المعتقل اشعر بفخر عظيم وانحني امام تضحيات المقاومين الذين حققوا هذا الانتصار الكبير الذي ينعم به اللبنانيون. تقول رواية الامم المتحدة.. ان اسرائيل نفذت في 25 أيار من عام 2000، القرار الدولي رقم 425، وتقول الحقيقة.. ان المقاومين هم الذين اجبروا الاحتلال على الفرار من مناطق ما كان يُسمى بـ» الشريط الحدودي «.. فكانت الهزيمة التي استكملت بفصل جديد سجل خلال العدوان الاسرائيلي عام 2006.
} «جيش لا يقهر» }
قد يعتقد الامين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله، الذي تحدث مرات عن تجربة المقاومة الفيتنامية، ان ثوار الفيتكونغ في فيتنام قاوموا الاميركيين انطلاقا من الخيار الكربلائي ـ الحسيني، من دون ان يكونوا قد سمعوا بالامام الحسين وبـ «النهج الكربلائي». في المقابل، قد نسمع من يقول في فيتنام، ان المقاومين اللبنانيين اختاروا في مقاومتهم للاحتلال الاسرائيلي، الخيار الماركسي ـ اليساري، من دون ان يكونوا من معتنقيها.
وهذا ما يدفع كثيرين للاعتقاد بان تكون التجربة الفيتنامية، التجربة الوحيدة التي يمكن توأمتها مع تجربة المقاومة في لبنان.
في فيتنام، وحين انتصرت الثورة، سُئل... هل يُعقل ان يُهزم من يحارب بمليون جندي، مزودين باحدث طيران في العالم، وبمدفعية لا حدود لمدى مرماها، بقوة مسلحة انطلقت اصلا من نواة عصابات صغيرة شكلها الثوار الفيتناميون.
وفي لبنان، وفي الجنوب بالتحديد، سُئل ايضا هل يعقل ان يُهزم من يحارب بـ «جيش لا يقهر»، ومزود باحدث انواع الاسلحة الفتاكة والمدمرة، بفعل عمليات عسكرية نفذها مقاومون انطلقوا، مع دخول اول دبابة اسرائيلية الى لبنان عام 1982، مقاومون اعتمدوا على حرب العصابات اسلوبا قتاليا لهم.
عندما بدأ الاميركيون يتكبدون خسائر جسيمة، بدأ الجيش السايغوني في التفكك، ففر منه اكثر من الفي جندي، وبعضهم عاد الى منزله، فيما انضمت اعداد كبيرة الى الثوار، هذا ما قاله الكاتب ويلفريد بورشيت الذي عايش الحرب الاميركية ـ الفيتنامية.
} الحرص المقاوم }
... «في لبنان يمكن ان نرى جيشا عرف بنفسه كيف تصبح القوة العسكرية عاجزة»، هذا ما اجمعت عليه الصحافة الاسرائيلية في شهر ايار من عام 2000، التي راحت تؤكد «ان اسرائيل اصبحت فجأة بالنسبة للعرب، كيانا قابلا للتحطيم»، فجيش الاحتلال الاسرائيلي، ومنذ تمركزت اولى آلياته العسكرية في العاصمة بيروت في العام 1982، تعرّف الى طعم الهزيمة المر.
في لبنان، انهالت الانسانية على «حزب الله» والمقاومة، بعد ان تقرر التعامل بـ «انسانية» مع ملف العملاء الذين شكلوا اداة تنكيل وقتل واجرام وانتهاك واعتداء وتعد وتهديد واعتقال للالاف من الجنوبيين، حتى الذين كانوا الجلادين في زنازين الاعتقال داخل معتقل الخيام، ينكلون بالمعتقلين بابشع صور التنكيل، تقرر مسامحة هؤلاء.. واجراء محاكمات صورية لطي الملف، فصدرت احكام لا تليق بحجم جريمة الخيانة الوطنية التي ارتكبوها، وما زال اللبنانيون يعانون شبكات التجسس الاسرائيلي التي اعيد بناؤها من جديد لتؤدي ادوارا تهدد البلد.
هذا «الحرص المقاوم» الذي ابداه «حزب الله»، ادرجته المقاومة في خانة تجنب الحساسيات التي كان يمكن ان تتسبب بها عمليات الانتقام من العملاء.. لان حجم الجريمة التي ارتكبها هؤلاء كبير وحجم خسائرها اكبر، سيما انها جريمة بقيت ترتكب طوال اثنتين وعشرين سنة، علما ان المقاومة كانت قادرة على محاسبة كل العملاء والمتعاملين، سيما انهم ينتمون الى كل الطوائف اللبنانية، فنظرية «الـ 6 مكرر» التي يرتكز عليها النظام الطائفي في لبنان متوافرة.
«الانسانية» ذاتها عكستها الفيتنامية صاحبة الصورة الاشهر في حرب فيتنام، الطفلة العارية التي كانت تهرب مع اطفال اخرين من جحيم قنابل النابالم الاميركية التي كانت تتساقط على قريتها، حين التقت بالطيار الاميركي الذي قام بقصف بلدتها في فيتنام بقنابل النابالم الحارقة.. بعد اكثر من ثلاثين عاماً، متناسية كل آلام القصف الاميركي .. وسامحته بعد ان صافحته.
فارق واحد بين المقاومة في لبنان والمقاومة في فيتنام، في الثانية استلمت الحكم وما تزال حتى اليوم، اما في الاولى فانها الاكثر عرضة لحملات تشكيك وتآمر وتشويه، يشهد اللبنانيون اليوم فصلا من فصولها ويتمثل بالمطالبة بنزع السلاح «بعد ان فقد مبرراته».. لان التسويق لـ «الصراع الفلسطيني ـ الاسرائيلي» بات «موضة» اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق