وقد لعب جدل السياسة الدولية ، وما تبعه من تغيرات هائلة على المستوى الاقتصادي ؛ دوراً خطيراً لصالح عرب الجزيرة ؛ وبخاصة في يثرب ومكة ؛ حيث أخذت أوضاع الخط التجاري تضطرب وتتقلب ؛ مما أثر على بنية التركيب الاجتماعي في المدينتين ؛ وبخاصة مكة التي تطورت كمحطة مرور على طريق القوافل التجارية ، حتى أضحى أهلها في حالة تناقض مع الشكل الاجتماعي البدوي المتفكك وغير المستقر ؛ فبدأت تدخل مرحلة تحولات بنيوية واضحة في تركيبها الاجتماعي ، وبدأت تضمحل في داخلها التركيبة القبلية ، مع إفراز جديد لمواقع سلطة ومؤسسات لم تكن موجودة من قبل ، وهو إفراز طبيعي للاستقرار والملكية ، وما يتبعه بالضرورة من صراع حول امتلاك وسائل الإنتاج ، ثم السلطة السياسية ؛ بعد أن اشتدت الحاجة إلى استقرار أمثل ، للقيام على شئون هذا العمل التجاري الهائل ،
وتقسيم الأدوار حول هذا العمل ، ثم الحاجة إلى حراسة وحماية قوافل التجارة التي أصبحت تجارة المكيين أنفسهم ، وأموالهم هم ، وتوفير جو من الأمن العام ، وما يترتب على ذلك من ضرورة إنشاء جيش منظم للقيام بالأمر ؛ كان أهم عناصره وركائزه طبقة العبيد ، ومن ثم كان حتمياً أن يتطور المجتمع المكي من مجتمع يعيش ديموقراطية ومساواة بدائية إلى مجتمع متمايز طبقياً . ويشرح لنا الدكتور ( أحمد الشريف ) ظروف المجتمع المكي من الداخل ؛ فيقول : " .. غير أن الثروة لم تكن موزعة توزيعاً عادلاً ؛ فقد كانت الهوة بين الأغنياء والفقراء كبيرة من الناحية الاقتصادية .. وكان التفاوت الطبقي موجودا على الرغم من الإحساس بالقرابة ، ووجود علاقات الحلف والولاء ، وعلى الرغم من الإحساس النفسي العام بالمساواة – ومتمثلاً في الفروق الواضحة بين طبقة الصرحاء وطبقة الموالي ، بالنظر إلى ما كانت تكفله الثروة وشرف البيت لصاحبها ؛ من تأهيل للدخول في مراكز القيادة والزعامة .. وكان العرب يتطلعون إلى مثل جديدة في الأخلاق والاجتماع تساير الطبع العربي " (1) .
وتقسيم الأدوار حول هذا العمل ، ثم الحاجة إلى حراسة وحماية قوافل التجارة التي أصبحت تجارة المكيين أنفسهم ، وأموالهم هم ، وتوفير جو من الأمن العام ، وما يترتب على ذلك من ضرورة إنشاء جيش منظم للقيام بالأمر ؛ كان أهم عناصره وركائزه طبقة العبيد ، ومن ثم كان حتمياً أن يتطور المجتمع المكي من مجتمع يعيش ديموقراطية ومساواة بدائية إلى مجتمع متمايز طبقياً . ويشرح لنا الدكتور ( أحمد الشريف ) ظروف المجتمع المكي من الداخل ؛ فيقول : " .. غير أن الثروة لم تكن موزعة توزيعاً عادلاً ؛ فقد كانت الهوة بين الأغنياء والفقراء كبيرة من الناحية الاقتصادية .. وكان التفاوت الطبقي موجودا على الرغم من الإحساس بالقرابة ، ووجود علاقات الحلف والولاء ، وعلى الرغم من الإحساس النفسي العام بالمساواة – ومتمثلاً في الفروق الواضحة بين طبقة الصرحاء وطبقة الموالي ، بالنظر إلى ما كانت تكفله الثروة وشرف البيت لصاحبها ؛ من تأهيل للدخول في مراكز القيادة والزعامة .. وكان العرب يتطلعون إلى مثل جديدة في الأخلاق والاجتماع تساير الطبع العربي " (1) .
وعليه فقد تهيأت مكة إفراز عناصر قيادية عربية ، كما قدرت أحداث الجدل الدائر للكعبة المكية أن تكون الكعبة الأولى والمحج الأقدس ؛ دون غيرها من الكعبات ، وساعد على ذلك أسواق مكة المختلفة ومواسمها المتنوعة التي وضعت لجذب التجار ؛ ثم انتشرت لغة قريش وعاداتها بين القبائل الحالة والمرتحلة ؛ بعد أن حتمت مصالح القرشيين عليهم اليقظة والاهتمام بما يجرى حول جزيرتهم من أحداث لتأثير هذه الأحداث المباشر على ما بأيديهم ، وكان هذا الوعي دافعا لنزعة قوية من التسامح الديني ، ولنضوج ميزهم عمن حولهم من أعراب ؛ فاستضافوا في كعبتهم المكية الأرباب المرتحلة برفقة أصحابها التجار وقاموا بتبني هذه الأرباب تدريجياً ، فكان أن تركها أصحابها في كعبة مكة ، ليعودوها في مواسمها ؛ فكثرت المواسم المكية بالاحتفالات الدينية بالأرباب المختلفة ، وكثر أيضاً الخير والبركة من التجارة ، وكان حتمياً أن تهفو قلوب العرب وتجتمع عند الكعبة فيها أربابهم ومعاشهم وأمنهم ومرحهم وسمرهم ، وأن يضمحل بالتدريج شأن بقية الكعبات التي توارت في الظل ثم في الزوال حتى طواها النسيان .
وكان موقع مكة الجغرافي بعيداً عن يد البطش الإمبراطوري ( فارسية أو رومانية ) ، إضافة إلى حالة الضعف والإنهيار التي أصابت هذه الإمبراطوريات ؛ مع الفشل الذريع الذي منيت به المحاولة اليتيمة من روما لضرب مكة كمركز تجاري قوي بواسطة جيش أبرهة الحبشي في عام الفيل ، عوامل مجتمعه ساعدت على صعود النجم المكي واتساع السطوة المكية ؛ مما أعطى القرشيين الضوء الأخضر للقيام بالدور التاريخي الذي حتمته الظروف عليهم ؛ خاصة بعد أن تدهورت اليمن مرة أخرى ، وأصبحت قاصرة عن القيام بهذا الدور ، وانتهت كتابع للدولة الفارسية . وإن ارتفاع النجم المكي وصعوده بعد حملة الفيل ، أمر يحتاج إلى الوقوف معه وقفة سريعة ؛ توضح لنا إلى أي مدى بلغ أمر قريش في نفوس القوم ، إلى الحد الذي دفع العرب جميعاً إلى رجم قبر أبي رغال ؛ دليل الجيش الغازي ، وإلى الاعتقاد الواثق برب الكعبة المكية الذي صد عن بيته جيشاً ما كان ممكناً أن يصده العرب ؛ تلك الثقة التي تجلت في الاعتقاد بأن جيش أبرهة قد تعرض لهجوم فريد في نوعه ، إذ أرسل الله على الجيش طيورا ترميه بالأحجار ، وينقل السهيلي عن النقاش : " أن الطير كانت أنيابها كالسباع ، وأكفها كأكف الكلاب ، وذكر البرقي أن ابن عباس قال : أصغر الحجارة كرأس الإنسان ، وكبارها كالإبل " وهذا الذي ذكره البرقي ذكره ابن إسحق في رواية يونس عنه ، وفي تفسير النقاش أن السيل احتمل جثثهم فألقاها في البحر (2) .
و بهذا الاعتقاد أرسل ( رؤية بن العجاج ) رجزه قائلا :
ومسهم ما مس أصحاب الفيل ترميهم حجارة من سجـيـل
ولعــــب بهم طيــــر أبـابيل فصيروا مثل عصف مأكول (3)
ويروي ابن هشام في متن شرح السهيلي للسيرة : " .. وكان اسم الفيل محمودا ، فلما وجهوا الفيل إلى مكة أقبل نفيل بن حبيب حتى قام إلى جنب الفيل ، ثم أخذ بأذنه فقال : ابرك يا محمود ، أو ارجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام ، ثم أرسل أذنه : فبرك الفيل ، وخرج نفيل بن حبيب يشتد حتى أصعد الجبل ، وضربوا الفيل ليقوم فأبي ، فضربوا في رأسه بالطبرزين ليقوم فأبى ، فأدخلوا محاجن لهم مراقة فبزغوه بها فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول . فأرسل عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان ، مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها ؛ حجر في منقاره وحجران في رجليه ؛ أمثال الحمص والعدس لا تصيب منهم أحداً إلا هلك " (4) .
وابن نفيل صاحب هذه الكرامة ، تمتد كراماته في التراث لتلحق حفيده ( عمر ابن زيد بن نفيل ) على ما سنرى ، وابن نفيل يسجل شهادته على ما حدث بقوله :
حمــدت الله إذ أبصرت طيـرا
وخفت حجارة تلقــي علينا (5)
وذات الحديث هو أيضاً ما دفع ( عبد الله بن الزبعري ) ليرسل شعره قائلاً :
تنكلــوا عن بطن مكــة إنها كانت قديماً لا يرام حريمهـــا
لم تخلق الشعري ليالي حــرمت إذ لا عزيز من الآنام يرومهــــا
سائل أمير الجيش عنها ما رأى ولسوف ينبي الجاهلين عليمها
لم يعش بعد الإياب سقيمها (6)
أما ( عبد المطلب بن هاشم ) زعيم قريش آنذاك فقد نصح بعدم التعرض لجيش أبرهة ، وبان يترك مكة أهلها إلى شعاب الجبال ، ثم توجه إلى أبرهة مع يعمر بن نفاثة و خويلد بن وائلة ، يعرضون عليه ثلث أموال تهامة على أن يرجع عنهم فرفض (7) . فرجع عبد المطلب يناجي ربه :
اللهم إن العبد يمنع حلــه فامنع حـــــلالـــــك
لا يغلبن صليــــبهم ومــحـالهم غدوا مــحــــالك
إن كنت تــــاركهم وقبلتنا فأمر مـــا بـدالــــــــك (8)
أما ابن هشام فيتابع سرد الأحداث قائلاً : " .. وأصيب أبرهة في جسده ، وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة ، كلما سقطت أنملة أتبعتها منه مدة تمث قيحاً ودماً ، حتى قدموا به صنعاء ، وهو مثل فرخ الطائر فما مات حتى انصدع صدره عن قلبه فيما يزعمون ، قال ابن إسحق : حدثني يعقوب بن عتبة أنه حدث : إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري في أرض العرب ذلك العام " (9) وهو ما يترك في الجسد مثل الحمص والعدس .
وأما الأستاذ عباس العقاد فكان يبدو على قناعة تامة بدور الجدري في هزيمة جيش الفيل ، فيقول مؤكداً جازماً قاطعاً : " وقد حدث بعد ذلك ما حدث مما لا شك ، وهو فتك الجدري بجذور أبرهة وانهزامه عن البيت .. إن حديث الجدري الذي فشا سنة 569 مثبت .. في تاريخ بروكوب Procope الوزير البيزنطي المعروف (10) . ثم يختم ابن هشام الأمر بإعلان نتيجة حدث الفيل العظيم بقوله : " .. فلما رد الله الحبشة عن مكة ، وأصابهم من النقمة ، أعظمت العرب قريشاً ، وقالوا : هم أهل الله ، قاتل الله عنهم " (11) .
أما كيف دخلت مكة هذا الدور ؛ فهو ما سيعود بنا إلى استفاضت في ذكره كتب التراث ؛ ذلك العهد الذي استطاعت فيه قريش أن تستولي على مكة قبل زمن الفيل بزمان ، تحت قيادة ( قصي بن كلاب ) ؛ ذلك القرشي الذي استطاع بعبقرية من نوع نادر أن يكون في مكة سيداً مطلقاً .
هوامش
_______
- أحمد إبراهيم الشريف : مكة و المدينة في الجاهلية وعهد الرسول ، ص 242 ، 244 .
- عبد الرحمن السهيلي : الوض الأنف في تفسير السيرة النبوية لابن هشام ، ضبط طه عبد الرءوف سعد ، دار المعرفة ، بيروت ، 1978 ، ج1 ، ص 72 .
- ابن هشام : السيرة النبوية ج1 ، ص 47 : 51 .
- ابن هشام : في كتاب الروض للسهيلي ، ج1 ، ص 71 .
- ابن هشام : السيرة النبوية ، ج1 ، ص 47 : 51 .
- ابن هشام : في كتاب الوض للسهيلي ، ج1 ص 69 .
- نفسه : ص 70 .
- نفسه : ص 73 .
- نفسه : في كتاب الروض للسهيلي ، ج1 ، ص 73 .
- العقاد : طوالع البعثة المحمدية ، ص 145 و 146 .
- ابن هشام : في كتاب الروض للسهيلي ، ج1 ، ص 77 .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق